علي الجنابي – بغداد – ميديا نيوز
قد جئتكمُ بتفصيلٍ وتبيانٍ واقعٍ، وما كان تأليفاً من خيالٍ وتنظيرِهِ. فقد رنَّ “ماسنجري” بالبشرى من صديقٍ حميمٍ، ضنَّ الدهرُ بلقاءٍ بيننا وشنَّ علينا بعصفِ الفراقِ وأعاصيرهِ،
فإستوطن هو”باريسَ” وإتّخَذَ “إيفلَ” قبلةً لمنزلهِ في عشيّهِ وحينَ بواكيره.
بادرني البعيدُ ببهجةٍ وبما عندهُ من خبرٍ وتباشيره، وهوالعليمُ بصدقِ محبتي لهُ وبتَتَبّعٍ منّي لتقاريره:
(أخيراً، قد نُلتُ جنسيةً فرنسيةً، وها قد مِلتُ لماءِ “السين” وأنغامٍ من خريرهِ. بعدما كللتُ من فاءِ “الفراتِ” في ناحية “عانة” وألغامٍ في نوعيرهِ. ثمنُ جنسيتي - ياصاح- طابعٌ بثلاثين “يورو” لاغير,هي دراهم الإفرنجي هاهنا وهي دنانيره.
جنسيةٌ من نسبٍ جديدٍ وبلا صخبٍ, وبيسرٍ فريدٍ وبلا عسرٍ ولا معاذيرَ لتبريره. فلا تَيَبساً هنا ببابِ مكتبٍ، ولامطاولاتٍ لوقوفٍ في طوابيرهِ، ولن ترى قَسَمَاتِ وجهٍ بشواربٍ لموظفٍ خلفَ شباكٍ تؤسسُ للمزاجِ أسسَ تعكيرهِ. لكنِ الحقَّ أقولُ: كان لزاماً علي شراءَالطابعِ لنقرِ رقمهِ على النت وتسطيرهِ، ليتسنى لهم إرسالَ جنسيتي ببريدِ يومٍ معلومٍ لا يتقدمُ ميقاتُهُ و يستنكفُ من تأخيرهِ).
أوحقاً ما تقولُ يا”يعربَ”! وذاك هو أسمُ صاحبي “العانيّ” بحذافيرهِ.
أفَمهاجرٌ وغريبٌ يتسلّمُ جنسية ً بلا عناءٍ ماخلا إرسال رقمِ طابعٍ بعد تسطيرهِ!
وإستدركتُ:
لا ضير- أبا العروبةِ – فلو رأيتني -واللهِ- منذ شهرينِ وإذ أقفُ منتصباً في قلبِ بيتِ الجنسية في ”بغدادَ” مستجيراً أستجيره، عن ضوابطِ تجديدِ بطاقةِ جنسيتي وأولادي، وعن شروطِ البيتِ في منحِها وتدابيرهِ، فهداني هادٍ منهمُ لحجزٍ لشهرينِ لقاءَ مبلغٍ أضخّهُ للبيتِ (وفق القانونِ) لتخفيفِ الزخمِ عن البيتِ من جماهيره!
جبايةُ مالٍ! أوَجبايةٌ لا لشيءٍ إلّا لتثبيتٍ حجزٍ في سجلٍّ عندهم وتظهيره؟ إمتنعتُ فغادرتُ البيتَ مستهجِناً لجهلٍ فيهمُ حالكٍ مُتَخَلِّفٍ عجزتُ عن تفسيره، على أملِ عودةٍ للبيتِ ملبياً لحجٍّ في قابلٍ، فأنفرُ بإحرامٍ للوطنِ وبأزكى مايكونُ من نفيرهِ، وآنئذٍ ستكونُ المشاعرُ في بيتِ الجنسيةِ قد خَفَّ زخمُ حجيجِها وصهيلُ تكبيره، وسأحُجُّ وأُكبِّرُعلى هَوْنٍ، كما اشاءُ بلا تدافعٍ ولا إبتزازٍ بألوان من أعاصيرهِ، وسأتأبَّطُ لهمُ ما تشتهيهِ أنفسُهمُ من مستنداتٍ لنسبي وماملكَت يميني من أضابيرهِ.
ثمَّ أني -يا أبا العروبةِ- كنتُ قد حججتُ البارحةَ عند”مصرف الرشيد”, وإذ بَصُرَت فيه صغيرتي ومن وراءِ زجاجهِ أكداساً من دنانيرهِ.
إنَّ ذلكَ لمصرفٌ ب(أوفى!) تِقنياتِ النقدِ مُزخرفةٌ تعاملاتهُ وتعابيره. زرتهُ لأتسلّمَ مرتباً تقاعدياً. ويكأنّي بمرتبِي تَبغضُ ذاتُهُ أيّةَ زيادةٍ في تغييره! ثمَّ أن المصرفَ إشترطَ دفعَ خمسَ وعشرينَ ألفاً -وفقَ دستورِ وطني- فوطني لا يتصرّفُ إلا وفقَ دستورهِ المقدّسِ ومزاميره، ثمناً لإرسالِ ساعٍ عندهمُ لجلبِ أمرِ صرفِ لمرتبي من (هيئة التقاعد الوطنية) أو جلبِ نسخةٍ منه بعد تصويره .
لمَ المبلغُ! وما شأني أنا وساعيهمُ ودهاليزٌ من أساطيره ؟ لاعِلمَ لي, لكني نضختُها إجلالاً لقدسيةِ المصرفِ ومناسكَ عبادتهِ وطلاسمَ تشفيره، فما مصرفُنا إلا نبعُ خيرٍ شهريٍّ لعبادٍ في جهادٍ مع الرغيفِ وأوكسيره.
أبداً..أبداً..أبداً:
لن أصرِّحَ ياوطني, بعد رحلتي حَجٍّ الجنسيةِ والمصرفِ بحرفٍ يجرحُ حِسَّكَ ويفرحُ في تعزيره: (تبّاً لك من وطنٍ)! بل أصدحُ: حاشاكَ ياوطن، فلا ذنبَ لكَ في سحقِ مزاجي وفي تدميرهِ. لن أنطقَها، فموطني أعرقُ الأوطانِ في مسلّتهِ، في نينواهُ، في قادسيتيهِ، في قُطرِسعفاتِ نخلتهِ وفي عطرِدُخانِ تنانيره.
وطنُ كان إنطلاقُ الحرفِ منهُ، وكانَ إنفلاق الصرفِ منهُ, نيزكُ عنفوانِ التأريخِ هو, وهوالنجمُ في تنويرهِ.
وطنُ الكرخِ والمها والرصافةِ, وأبي جعفرالمنصورِ بأوصافهِ, والرشيدِ وإنصافهِ, ودارِالحكمةِ ومعروف الرصافي وتعابيره .
وطنُ النهرينِ وشطِّ العربِ وبِلَيَّاتِ لسانِ إبنهِ البصراويّ، ونكاتهِ، ونبيلِ تدبيره.
وطنُ أربيلَ ولَبَنِهِ، وكلماتِ إبنهِ التي لا تقبلُ قسمةً إلا على نفسِها في دعمهِ، وفي حالِ تحذيره.
وطنٌ مُرَكَّبٌ على قهقهةِ خالاتي بلا سببٍ، ونَحنحةِ أعَماي بتهكُمٍ وتَبَب، ومن إستدانةٍ مستدامةٍ من جاريَ لدراهمي في عسرهِ وحتى حين تيسيره.
وطنٌ التحيةُ فيه مازالت تُلقى على بائسِ الحيِِّ وعلى أميره، ومن قربٍ تُلقى, وأبعدُ مدىً لإلقائها هوإرتدادُ طرفٍ لرجلٍ متمايلٍ ردفَ السنامِ على بعيرهِ.
لا ثمنَ يوازي جنسيّةَ وطني ولو كان الكوكبُ في ينابيعهِ وفي أزاهيره.
لن أوبخَكَ ياوطن رغمَ أنّكَ أمسَيتَ جمرةً تتلظى، أوقدَتها فيكَ أذنابُ حميرٍلمُحتَلٍّ غاشمٍ وأجلافٌ من خنازيرهِ ودبابيره. وأنّى ليَ جرأةٌ لأقذفكَ بغليظٍ من كلمٍ وحَبكِهِ وتكويره!
أما تجديدُ جنسيتي -وأنا البغداديُّ أنا- فلا تثريبَ عليك في تَقَعُّرِ خَدِّكَ وفي تصعيرهِ. سألبسُ لكَ إحرامي لأنقلبَ في قابلٍ على ضامري مُلبياً وحاجَّاً لبيتِ جنسيتِكَ وتجديدِ إنتمائيَ فيكَ وتأشيره، وسأرمي عند عقبةِ بيتكَ الكبرى سبعَ جمراتٍ على كل موسوسٍ لي بهجرةِ الوطنِ وشتمِهِ وتكفيرهِ.
و…
لَبِّيه يا جنسيةٌ تُختَمُ بختمِ بغدادَ الرشيدِ وزهوهِ وتعفيره.